فصل: الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 79‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 21‏)‏

‏{‏ وما تلك بيمينك يا موسى ‏.‏ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى ‏.‏ قال ألقها يا موسى ‏.‏ فألقاها فإذا هي حية تسعى ‏.‏ قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ‏}‏

هذا برهان من اللّه تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة وخرق للعادة باهر دال على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا اللّه عزَّ وجلَّ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله‏:‏ ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏ قال بعض المفسرين إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له؛ وقيل وإنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها‏؟‏ فسترى ما نصنع بها الآن، ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏‏؟‏ استفهام تقرير، ‏{‏قال هي عصاي أتوكأ عليها‏}‏ أي اعتمد عليها، في حال المشي، ‏{‏وأهش بها على غنمي‏}‏ أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال الإمام مالك‏:‏ الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود، فهذا الهش ولا يخبط، وقوله‏:‏ ‏{‏ولي فيها مآرب أخرى‏}‏ أي مصالح ومنافع وحاجات أُخر غير ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألقها يا موسى‏}‏ أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها، ‏{‏فألقاها فإذا هي حية تسعى‏}‏ أي صارت في الحال حية عظيمة، ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة، ‏{‏تسعى‏}‏ أي تمشي وتضطرب‏.‏ عن ابن عباس ‏{‏فألقاها فإذا هي حية تسعى‏}‏، ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، ونودي أن يا موسى خذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف، فقيل له

في الثالثة إنك من الآمنين، فأخذها‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ ألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، يدب يلتمس كأنه يبتغي شيئاً يريد أخذه، يمر بالصخرة فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فلما عاين ذلك موسى ولَّى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر به فوقف استحياء منه، ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت، فرجع موسى وهو شديد الخوف، فقال ‏{‏خذها‏}‏ بيمينك ‏{‏ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏، وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يده، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها، إذا توكأ بين الشعبتين ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏ أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏22 ‏:‏ 35‏)‏

‏{‏ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ‏.‏ لنريك من آياتنا الكبرى ‏.‏ اذهب إلى فرعون إنه طغى ‏.‏ قال رب اشرح لي صدري ‏.‏ ويسر لي أمري ‏.‏ واحلل عقدة من لساني ‏.‏ يفقهوا قولي ‏.‏ واجعل لي وزيرا من أهلي ‏.‏ هارون أخي ‏.‏ اشدد به أزري ‏.‏ وأشركه في أمري ‏.‏ كي نسبحك كثيرا ‏.‏ ونذكرك كثيرا ‏.‏ إنك كنت بنا بصيرا ‏}‏

وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام، وهو أن اللّه أمره أن يدخل يده في جيبه، كما صرح به في الآية الأخرى‏.‏ وههنا عبر عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏واضمم يدك إلى جناحك‏}‏، وقال في مكان آخر‏:‏ ‏{‏واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏واضمم يدك إلى جناحك‏}‏‏:‏ كفك تحت عضدك؛ وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر، وقوله‏:‏ ‏{‏تخرج بيضاء من غير سوء‏}‏ أي من غير برص ولا أذى، ومن غير شين قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم ، وقال الحسن البصري‏:‏ أخرجها واللّه كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزَّ وجلَّ، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لنريك من آياتنا الكبرى‏}‏، وقال وهب، قال له ربه‏:‏ أدنه، فلم يزل يدينه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة فاستقر، وذهبت عنه الرعدة، وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه‏.‏ وقوله ‏{‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏‏:‏ أي اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خرجت فاراً منه وهارباً، فادعه إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ قال اللّه لموسى‏:‏ انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وقد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان عليّ وسقط من عيني، ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي، إني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي، وحذره من نقمتي وبأسي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم من كلام وهب بن منبه، وهو طويل اقتصرنا على بعضه‏"‏‏.‏

‏{‏قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري‏}‏ هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عزّ وجلّ، أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم، هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عزَّ وجلَّ إليهم نذيراً يدعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري‏}‏ أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك ‏{‏واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي‏}‏‏.‏ وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه، وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت‏.‏ قال اللّه تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال ‏{‏أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين‏}‏ أي يفصح بالكلام، وقال الحسن البصري ‏{‏واحلل عقدة من لساني‏}‏ قال‏:‏ حلّ عقدة واحدة،

ولو سأل أكثر من ذلك أعطي، وقال ابن عباس‏:‏ شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي‏}‏، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له، قال ابن عباس‏:‏ نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام‏.‏ روي عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر، فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلاً يقول‏:‏ أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه‏؟‏ قالوا‏:‏ لا ندري، قال أنا واللّه أدري‏!‏ قالت، فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني، إنه ليعلم أي أخ كان في الدينا أنفع لأخيه، قال‏:‏ موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت‏:‏ صدق واللّه ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اشدد به أزري‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ظهري، ‏{‏وأشركه في أمري‏}‏ أي في مشاورتي، ‏{‏كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيراً حتى يذكر اللّه قائماً ومضظجعاً، وقوله‏:‏ ‏{‏إنك كنت بنا بصيرا‏}‏ أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏36 ‏:‏ 40‏)‏

‏{‏ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ‏.‏ ولقد مننا عليك مرة أخرى ‏.‏ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ‏.‏ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ‏.‏ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ‏}‏

هذه إجابة من اللّه لرسوله موسى عليه السلام، فيما سأل من ربه عزّ وجلّ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه، فيما كان من أمر أمه، حين كانت ترضعه وتحذر عليه، من فرعون وملئه أن يقتلوه، حيث كانوا يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم اللّه - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يربى إلا على فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه، مع محبته وزوجته له، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأخذه عدو لي وعدو له * وألقيت عليك محبة مني‏}‏ أي عدوك جعلته يحبك، قال سلمة بن كهبل ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ قال‏:‏ حببتك إلى عبادي، ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏‏:‏ تربى بعين اللّه، وقال قتادة‏:‏ تغذى على عيني، وقال ابن أسلم‏:‏ يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف، وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها‏}‏، وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون، وعرضوا عليه المراضع فأباها، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وحرمنا عليه المراضع من قبل‏}‏، فجاءت أخته، وقالت‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون‏}‏ تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة، فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها فقبله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، واستأجروها على إرضاعه، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدينا، وفي الآخرة أعظم وأجزل، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها‏)‏، وقال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن‏}‏ أي عليك، ‏{‏وقتلت نفسا‏}‏ يعني القبطي ‏{‏فنجيناك من الغم‏}‏ وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله، ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين، وقوله‏:‏ ‏{‏وفتناك فتونا‏}‏‏.‏

حديث الفتون ‏:‏ روى الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في سننه، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ سألت عبد اللّه بن عباس عن قول اللّه عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وفتناك فتونا‏}‏، فسألته عن الفتون ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ استأنف النهار يا أبا جبير، فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال‏:‏ تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أبناء وملوكاً، فقال بعضهم‏:‏ إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا‏:‏ ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه اسلام، فقال فرعون‏:‏ كيف ترون‏؟‏ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا‏:‏ ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً‏.‏ فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن يقتلون، وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به‏.‏

فأوحى اللّه إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها‏:‏ ما فعلت يا بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إليَّ من أن

ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعه مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذته فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امراة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً، فألقى اللّه عليه منها محبة لم يلق على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏ فقالت لهم‏:‏ أقرّوه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت‏:‏ قرة عين لي ولك، فقال فرعون‏:‏ يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه اللّه كما هداها، ولكن حرمه ذلك‏)‏‏.‏ فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئراً، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها، فلم يقبل، واصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته‏:‏ قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً، حي ابني أم قد أكلته الدواب‏؟‏ ونسيت ما كان اللّه وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد، وهو إلى جنبه، وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات‏:‏ أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها فقالوا‏:‏ وما يدرك نصحهم له، هل تعرفينه‏؟‏ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

فقالت‏:‏ نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها، قالت‏:‏ امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئاً حبه قط، قالت أم موسى‏:‏ لا أستطيع أن أجع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً، فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان اللّه وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون، وايقنت أن اللّه منجز وعده، فرجعت به إلى بيتها من يومها، وأنبته اللّه نباتاً حسناً، وحفظه لما قد قضى فيه‏.‏ فلم يزل بنو إسرائيل، وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم وما كان فيهم‏.‏

فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى‏:‏ أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها‏:‏ لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة، لأرى ذلك، وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها

بجلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم قالت‏:‏ لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء اللّه لفرعون‏:‏ ألا ترى ما وعد اللّه إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏ بعد كل بلاء ابتلي به، وأريد به فتوناً، فجاءت امرأة فرعون فقالت‏:‏ ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي‏؟‏ فقال‏:‏ ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني، فقالت‏:‏ اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين، وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فاتنزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة‏:‏ ألا ترى‏؟‏ فصرفه اللّه عنه بعد ما كان قد هم به، وكان اللّه بالغاً فيه أمره‏.‏

فلما بلغ أشده، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما كان موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم، لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع، إلا أم موسى، إلا أن يكون اللّه أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا اللّه عزَّ وجلَّ والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل‏:‏ هذا من عمل الشيطان إنه عدّو مضل مبين، ثم قال‏:‏ ‏{‏رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم‏}‏، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له‏:‏ إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال‏:‏ ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم، فبينما هو يطوفون ولا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنك لغوي مبين، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال إنك لغوي مبين، أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال‏:‏ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، وإنما قال مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر، حين يقول‏:‏ يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس‏.‏ فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم، يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جرير‏.‏

فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عزَّ وجلَّ، فإنه قال‏:‏ ‏{‏عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان‏}‏ يعني بذلك حابستين غنمها، فقال لهما‏:‏ ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس‏؟‏ قالتا‏:‏ ليس لنا قوة نزاحم القوم، وإنما نسقي من فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء، فانصرفتا بغنمها إلى أبيهما وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة، وقال‏:‏ ‏{‏رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير‏}‏، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما، بغنمها حفلاً بطاناً، فقال‏:‏ إن لكما اليوم لشأناً، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلما كلمه، قال‏:‏ لا تخف نجوت من القوم الظالمين، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان، ولسنا في مملكته، فقالت إحداهما‏:‏ ‏{‏يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين‏}‏ فاحتملته الغيرة على أن قال لها‏:‏ ما يدريك ما قوته، وما أمانته‏؟‏ فقالت‏:‏ أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة فإنه نظر إليَّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلم علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي‏:‏ امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت، فقال له‏:‏ هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصالحين، ففعل، فكانت على نبي اللّه موسى ثمان حجج واجبة، وكانت سنتان عدة فقضى اللّه عنه عدته فأتمها عشراً‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم، قال‏:‏ هل تدري أي الأجلين قضى موسى‏؟‏ قلت‏:‏ لا، وأنا يومئذ لا أدرري، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك، فقال‏:‏ أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي اللّه واجبة لم يكن نبي اللّه لينقص منها شيئا، ويعلم أن اللّه كان قاضياً عن موسى عدته التي كان وعده، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك، فقال‏:‏ الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت‏:‏ أجل وأولى‏.‏

فاما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص اللّه عليك في القرآن، فشكا إلى اللّه تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه اللّه سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى اللّه إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فقالا‏:‏ ‏{‏إنا رسولا ربك‏}‏، قال‏:‏ فمن ربكما‏؟‏ فأخبراه بالذي قص اللّه عليك في القرآن، قال‏:‏ فما تريدان‏؟‏ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت، قال‏:‏ أريد أن تؤمن باللّه وترسل معنا بني إسرائيل‏.‏ فأبى عليه، فقال‏:‏ ائت بآية إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفلها عنه، ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له‏:‏ هذان ساحرن يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له‏:‏ اجمع لهما السحرة، فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا‏:‏ بم يعمل هذا الساحر‏؟‏ قالوا‏:‏ يعمل بالحيات، قالوا‏:‏ فلا واللّه ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل فما أجرنا إن نحن غلبناه‏؟‏ قال لهم‏:‏ أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ فحدثني ابن عباس‏:‏ أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر اللّه فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء‏.‏ فلما اجتمعوا في صعيد واحد، قال الناس بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا فلنحضر لهذا الأمر ‏{‏لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغاليبن‏}‏ يعنون موسى وهارون، استهزاء بهما ‏{‏قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال بل ألقوا، فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون‏}‏، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى اللّه إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغراً فاه فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتعلته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا‏:‏ لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ، آمنا باللّه وبما جاء به موسى من عند اللّه ونتوب إلى اللّه مما كنا عليه، فكسر اللّه ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعلمون ‏{‏فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين‏}‏، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو اللّه بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى‏.‏

فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال‏:‏ هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا‏؟‏ فأرسل اللّه على قومه‏:‏ الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتى أمر اللّه موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى اللّه إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التقي على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصياً للّه‏.‏ فلما تراءى الجمعان وتقاربا، قال أصحاب موسى‏:‏ إنا لمدركون، افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب‏.‏ قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر؛ فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه‏:‏ إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه‏.‏

ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه‏}‏ الآية‏:‏ قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم،

ومضى فأنزلهم موسى منزلاً، وقال‏:‏ أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوماً وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه، ريح فم الصائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقال له ربه حين أتاه‏:‏ لم أفطرت‏؟‏ وهو أعلم بالذي كان‏!‏ قال‏:‏ يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال‏:‏ أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع فصم عشراً‏.‏ ثم ائتني‏.‏ ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل سائهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، وقال‏:‏ إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلي أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقته، فقال‏:‏ لا يكون لنا ولا لهم‏.‏ وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا‏.‏ فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون، فقال له هارون عليه السلام‏:‏ يا سامري إلا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك، فقال‏:‏ هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، لا ألقيها لشيء إلا أن تدعو اللّه إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال‏:‏ أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار‏!‏ قال ابن عباس‏:‏ لا واللّه ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة‏:‏ يا سامري ما هذا وأنت أعلم به‏؟‏ قال هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة‏:‏ لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا، فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة‏:‏ هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن ولا نصدق، واشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون‏:‏ ‏{‏يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري‏}‏، قالوا‏:‏ فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً، ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، وقال سفهاؤهم‏:‏ أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه‏.‏

فلما كلم اللّه موسى وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، ‏{‏فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا‏}‏، فقال لهم‏:‏ ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري، فقال له‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم ‏{‏فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي، قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس، وإن لك موعدا لن تخلفه، وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا‏}‏‏.‏ ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم‏:‏ يا موسى سل لنا بك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فيكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي اللّه من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال‏:‏ ‏{‏رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏‏؟‏ وفيهم من كان اللّه اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏، فقال‏:‏ يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة‏؟‏ فقال له‏:‏ إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد، فيقتله بالسيف ولا يبالي في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي أمرهم على موسى وهارون، واطلع اللّه من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر اللّه للقاتل والمقتول‏.‏

ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف‏.‏ فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فنتق اللّه عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا‏:‏ يا موسى‏!‏ إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون‏:‏ قيل ليزيد هكذا قرأت‏؟‏ قال‏:‏ نعم من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه، قالوا‏:‏ نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما

تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏.‏ ويقول أناس‏:‏ إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون‏}‏، فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ، فاستجاب اللّه له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس ‏"‏أخرجه النسائي في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، قال ابن كثير‏:‏ وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عباس مما أبيح نقله من الإسرائيليات‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏40 ‏:‏ 44‏)‏

‏{‏ فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ‏.‏ واصطنعتك لنفسي ‏.‏ اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ‏.‏ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ‏.‏ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام‏:‏ إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه، يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل، ثم جاء موافقاً لقدر اللّه وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله للّه تبارك وتعالى، وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثم جئت على قدر يا موسى‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي على موعد، وقال قتادة‏:‏ على قدر الرسالة والنبوة، وقوله‏:‏ ‏{‏واصطنعتك لنفسي‏}‏ أي اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء، روى البخاري عند تفسيرها عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏التقى آدم وموسى، فقال موسى‏:‏ أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم‏:‏ وأنت الذي اصطفاك اللّه برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فوجدته مكتوباً عليّ قبل أن يخلقني‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فحج آدم موسى‏)‏ ‏"‏أخرجه في الصحيحين‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اذهب أنت وأخوك بآياتي‏}‏ أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي ‏{‏ولا تنيا في ذكري‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر اللّه، بل يذكران اللّه في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر اللّه عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اذهبا إلى فرعون إنه طغى‏}‏ أي تمرد وعتا، وتجبر على اللّه وعصاه، ‏{‏فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن

فرعون في غاية العتو والاسكتبار، وموسى صفوة اللّه من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، وعن الحسن البصري ‏{‏فقولا له قولا لينا‏}‏ أعذرا إليه، قولا له‏:‏ إن لك رباً ولك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق، لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، أو يخشى - أي يوجد طاعة من خشية ربه - كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمن أراد أن يذكر أو يخشى‏}‏ فالتذكر الرجوع عن المحذور، والخشية تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ يقول‏:‏ لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 48‏)‏

‏{‏ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ‏.‏ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ‏.‏ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ‏.‏ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ‏}‏

يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام‏:‏ أنهما قالا مستجيرين باللّه تعالى شاكيين إليه ‏{‏إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏}‏ يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك، قال عبد الرحمن بن زيد ‏{‏أن يفرط‏}‏ يعجل، وقال مجاهد‏:‏ يسلط علينا، وقال ابن عباس ‏{‏أو أن يطغى‏}‏ يعتدي ‏{‏قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏}‏ أي لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني، وأنا معكم بحفظي ونصري، وتأييدي‏.‏ ‏{‏فأتياه فقولا إنا رسولا ربك‏}‏ قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد جئناك بآية من ربك‏}‏ أي بدلالة ومعجزة من ربك، ‏{‏والسلام على من اتبع الهدى‏}‏ أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى، ولهذا لما كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله ‏(‏بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرتين‏)‏، ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون ‏{‏والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏ أي قد أخبرنا اللّه فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم، أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات اللّه وتولى عن طاعته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى‏}‏ أي كذب بقلبه وتولى بفعله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏ 52‏)‏

‏{‏ قال فمن ربكما يا موسى ‏.‏ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ‏.‏ قال فما بال القرون الأولى ‏.‏ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن فرعون، أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق ‏{‏قال فمن ربكما يا موسى‏}‏ أي الذي بعثك وأرسلك من هو‏؟‏ فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري ‏{‏قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يقول خلق لكل شيء زوجه، وعنه‏:‏ جعل الإنسان إنساناً والحمار حماراً والشاة شاة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أعطى كل شيء صورته، وسوّى خلق كل دابة‏.‏ وقال سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏ قال‏:‏ أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح، ‏{‏قال فما بال القرون الأولى‏}‏‏؟‏ أصح الأقوال في معنى ذلك؛ أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله، هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي الذين لم يعبدوا اللّه، أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره، فقال له موسى في جواب ذلك‏:‏ هم وإن لم يعبدوا فإن عملهم عند اللّه مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب اللّه وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمار، ‏{‏لا يضل ربي ولا ينسى‏}‏ أي لا يشذ عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتقدس، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان ‏(‏أحدهما عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏53 ‏:‏ 56‏)‏

‏{‏ الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ‏.‏ كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ‏.‏ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ‏.‏ ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ‏}‏

هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عزَّ وجلَّ، حين سأله فرعون عنه فقال‏:‏ ‏{‏الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم الأرض مهدا‏}‏ أي قراراً تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها، وتسافرون على ظهرها، ‏{‏وسلك لكم فيها سبلا‏}‏ أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون‏}‏، ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى‏}‏ أي من أنواع النباتات من زروع وثمار، ومن حامض وحلو ومر، وسائر الأنواع، ‏{‏كلوا وارعوا أنعامكم‏}‏ أي شيء لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً، ‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏ أي لدلالات وحججاً وبراهين، ‏{‏لأولي النهى‏}‏ أي لذوي العقول السليمة المستقيمة، ‏{‏منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى‏}‏ أي من الأرض مبدؤكم، فإن آباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ومنها نخرجكم تارة أخرى، ‏{‏يوم يدعوكم فستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا‏}‏‏.‏ وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون‏}‏، وفي الحديث الذي في السنن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر، وقال‏:‏ منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال‏:‏ وفيها نعيدكم، ثم أخرى وقال‏:‏ ومنها نخرجكم تارة أخرى، وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‏}‏، يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات، وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 57 ‏:‏ 59‏)‏

‏{‏ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ‏.‏ فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ‏.‏ قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن فرعون‏:‏ أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، فقال‏:‏ هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا معك، فإن عندنا سحراً مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه ‏{‏فاجعل بيننا وبينك موعدا‏}‏ أي يوماً نجتمع نحن وأنت فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، في مكان معين ووقت معين، فعند ذلك ‏{‏قال‏}‏ لهم موسى ‏{‏موعدكم يوم الزينة‏}‏ ‏"‏روي عن ابن عباس أنه يوم عاشوراء، أخرجه ابن أبي حاتم‏}‏، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، واجتماع جميعهم، ليشاهد الناس قدرة اللّه على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأن يحشر الناس‏}‏ أي جميعهم ‏{‏ضحى‏}‏ أي ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، كل أمرهم بيّن واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل‏:‏ ليلاً، ولكن نهاراً، ضحى، قال ابن عباس‏:‏ وكان يوم الزينة، يوم عاشوراء، وقال السدي‏:‏ كان يوم عيدهم‏.‏ قلت‏:‏ وفي مثله أهلك اللّه فرعون وجنوده‏.‏ كما ثبت في الصحيح، وقال وهب بن منبه، قال فرعون‏:‏ يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه، قال موسى‏:‏ لم أؤمر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك، فأوحى اللّه إلى موسى‏:‏ أن اجعل بينك وبينه أجلاً، وقل له أن يجعل هو، قال فرعون اجعله إلى أربعين يوماً ففعل، وقال مجاهد وقتادة ‏{‏مكانا سوى‏}‏ منصفاً، وقال السدي عدلاً، وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ مستوٍ بين الناس، وما فيه لا يكون صوت ولا شيء، يتغيب بعض ذلك عن بعض، مستوٍ حين يرى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏60 ‏:‏ 64 ‏)‏

‏{‏ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ‏.‏ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى ‏.‏ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ‏.‏ قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ‏.‏ فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن فرعون‏:‏ أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين، تولى‏:‏ أي شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم‏}‏، ثم أتى‏:‏ أي اجتمع الناس، لميقات يوم معلوم‏:‏ وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته، واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقفت السحرة بين يدي فرعون صفوفاً وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون ‏{‏أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين‏}‏‏.‏ ‏{‏قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا‏}‏ أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها، وإنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على اللّه ‏{‏فيسحتكم بعذاب‏}‏ أي يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له، ‏{‏وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم‏}‏ قيل‏:‏ معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول‏:‏ ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول‏:‏ بل هو ساحر، وقيل غير ذلك، واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأسروا النجوى‏}‏‏:‏ أي تناجوا فيما بينهم، ‏{‏قالوا إن هذان لساحران‏}‏ وهذه لغة لبعض العرب، جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ ‏{‏إن هذين لساحران‏}‏، والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم‏:‏ تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه، ويخرجاكم من أرضكم، وقوله‏:‏ ‏{‏ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر، فإنهم كانوا معظمين بسببها، لهم أموال وأرزاق عليها، يقولون‏:‏ إذا غلب هذان أهلكاهم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهم الرياسة بها دونكم، وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله‏:‏ ‏{‏ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ يعني ملهكم الذي هم فيه والعيش، وعن علي في قوله‏:‏ ‏{‏ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ قال‏:‏ ليصرفا وجوه الناس إليهما ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وقال مجاهد ‏{‏ويذهبا بطريقتكم المثلى‏}‏ قال‏:‏ أولو الشرف والعقل والأسنان‏.‏ ‏{‏فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا‏}‏ أي اجتمعوا كلكم صفاً واحداً، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه، ‏{‏وقد أفلح اليوم من استعلى‏}‏ أي منا ومنه، أما نحن فقد وعدنا هذا الملك، العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 65 ‏:‏ 70 ‏)‏

‏{‏ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ‏.‏ قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ‏.‏ فأوجس في نفسه خيفة موسى ‏.‏ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ‏.‏ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ‏.‏ فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى ‏{‏إما أن تلقي ‏}‏أي أنت أولاً، ‏{‏وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا‏}‏‏:‏ أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، ‏{‏فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏}‏، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا ‏{‏قالوا بعزة فرعون إنا لغالبون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏}‏‏.‏

وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه، وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فألقى كل منهم عصا وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً، وقوله‏:‏ ‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى‏}‏ أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم، ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمنيه، فأوحى اللّه تعالى

إليه في الساعة الراهنة، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً صحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبره بفنون السحر وطرقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سجداً للّه، وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شهداء بررة، قال محمد بن كعب‏:‏ كانوا ثمانين الفاً، وقال السدي‏:‏ بضعة وثلاثين ألفاً، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال كعب الأحبار‏:‏ كانوا اثني عشر ألفاً‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها‏.‏ قال وذكر عن سعيد بن جبير قوله ‏{‏فألقي السحرة سجدا‏}‏ قال‏:‏ رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 73‏)‏

‏{‏ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ‏.‏ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ‏.‏ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه، ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة، والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغلب كل الغلب، شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم، وقال ‏{‏آمنتم له‏}‏ أي صدقتموه ‏{‏قبل أن آذن لكم‏}‏ أي وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عليّ في ذلك، وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب ‏{‏إنه لكبيركم الذي علمكم السحر‏}‏ أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون‏}‏، ثم أخذ يتهددهم فقال‏:‏ ‏{‏فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏ أي لأجعلنكم مثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم‏.‏ ‏{‏ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى‏}‏ أي أنتم تقولون إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى، فسوف تعلمون من يكون له العذاب

ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات‏}‏ أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين ‏{‏والذي فطرنا‏}‏ يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك ‏{‏إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏ أي إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار، ‏{‏إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا‏}‏ أي ما كان منا من الآثام، خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر، لتعارض به آية اللّه تعالى ومعجزة نبيّه‏.‏ عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكرهتنا عليه من السحر‏}‏ قال‏:‏ أخذ فرعون أربعون غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء، وقال علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس‏:‏ فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من الذين قالوا‏:‏ ‏{‏آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه خير وأبقى‏}‏ أي خير لنا منك ‏{‏وأبقى‏}‏ أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا، وقال محمد بن كعب القرظي ‏{‏واللّه خير‏}‏‏:‏ أي لنا منك إن أطيع ‏{‏وأبقى‏}‏‏:‏ أي منك عذاباً إن عصي، والظاهر أن فرعون لعنه اللّه صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من اللّه؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف‏:‏ أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏74 ‏:‏ 76‏)‏

‏{‏ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ‏.‏ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ‏.‏ جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ‏}‏

الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة اللّه وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا ‏{‏إنه من يأت ربه مجرما‏}‏ أي يلقى اللّه يوم القيامة وهو مجرم ‏{‏فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور‏}‏‏.‏ عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً وأذن في الشفاعة جيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، فيقال‏:‏ يا أهل الجنة اقبضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل‏)‏، فقال رجل من القوم‏:‏ كأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بالبادية ‏"‏الحديث رواه مسلم والإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات‏}‏ أي ومن لقي ربه يوم المعاد، مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله، ‏{‏فأولئك لهم الدرجات العلى‏}‏ أي الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات والمساكن الطيبات، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة،

ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم اللّه فسألوه الفردوس‏)‏ ‏"‏الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمزي‏"‏وفي الصحيحين‏:‏ ‏(‏إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم - قالوا‏:‏ يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ بلى والذي نفسي بيده رجال أمنوا باللّه وصدقوا المرسلين‏)‏ وفي السنن وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما، وقوله‏:‏ ‏{‏جنات عدن‏}‏ أي إقامة وهي بدل من الدرجات العلى ‏{‏تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين أبداً ‏{‏وذلك جزاء من تزكى‏}‏ أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك وعبد اللّه وحده لا شريك له، وأتبع المرسلين فيما جاؤوا به منخير وطلب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 77 ‏:‏ 79‏)‏

‏{‏ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ‏.‏ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ‏.‏ وأضل فرعون قومه وما هدى ‏}‏

يقول تعالى مخبراً‏:‏ أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل إن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل من يجمعون له الجند من بلدانه، ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين، أي عند طلوع الشمس، ‏{‏فلما تراءى الجمعان‏}‏‏:‏ أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر، ‏{‏قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إني معي ربي سيهدين‏}‏ ووقف ببني إسرائيل أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى اللّه إليه‏:‏ ‏{‏أن اضرب لهم طريقا في البحر يبسا‏}‏ فضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي الجبل العظيم، فأرسل اللّه الريح على أرض البحر، فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا‏}‏‏:‏ أي من فرعون ‏{‏ولا تخشى‏}‏ يعني من البحر أن يغرق قومك، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم‏}‏‏:‏ أي البحر ‏{‏ما غشيهم‏}‏ وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 82 ‏)‏

‏{‏ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ‏.‏ كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ‏.‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ‏}‏

يذكر تعالى نعمه - على بني إسرائيل - العظام، ومننه الجسام، حيث أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر عينهم منه وهم ينظرون إليه، وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما قال‏:‏ ‏{‏وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون‏}‏‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا‏:‏ هذا اليوم الذي أظفر اللّه فيه موسى على فرعون، فقال‏:‏ ‏(‏نحن أولى بموسى فصوموه‏)‏ ‏"‏الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عباس‏"‏، ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون، جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه اللّه تعالى عليه وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هنالك، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل، كما يقصه اللّه تعالى قريباً، وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها، فالمن حلوى كانت تتنزل عليهم من السماء، والسلوى طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفاً من اللّه ورحمة بهم وإحساناً إليهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي‏}‏ أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ولا تطغوا في رزقي، فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما أمرتكم به، ‏{‏فيحل عليكم غضبي‏}‏ أي أغضب عليكم، ‏{‏ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى‏}‏ أي فقد شقي، وقوله‏:‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا‏}‏ أي كل من تاب إليَّ تبت عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تاب‏}‏ أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، قوله‏:‏ ‏{‏وآمن‏}‏ أي بقلبه، ‏{‏وعمل صالحا‏}‏ أي بجوارحه، وقوله‏:‏ ‏{‏ثم اهتدى‏}‏ عن ابن عباس‏:‏ أي ثم لم يشكك، وقال سعيد بن جبير ‏{‏ثم اهتدى‏}‏‏:‏ أي استقام على السنة والجماعة وروى نحوه عن مجاهد والضحّاك وغير واحد من السلف ، وقال قتادة ‏{‏ثم اهتدى‏}‏‏:‏ أي لزم الإسلام حتى يموت، وثم ههنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏83 ‏:‏ 89 ‏)‏

‏{‏ وما أعجلك عن قومك يا موسى ‏.‏ قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى ‏.‏ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ‏.‏ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ‏.‏ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ‏.‏ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ‏.‏ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ‏}‏

لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشراً فتمت أربعين ليلة، أي يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري‏}‏ أي قادمون ينزلون قريباً من الطور، ‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏}‏ أي لتزداد عني رضا، ‏{‏قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري‏}‏، أخبر تعالى نبيّه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري، وقوله‏:‏ ‏{‏فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا‏}‏ أي رجع بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، والأسف‏:‏ شدة الغضب، وقال مجاهد ‏{‏غضبان أسفا‏}‏، أي جزعاً، وقال قتادة والسدي‏:‏ أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده، ‏{‏قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا‏}‏ أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أيادي اللّه، ‏{‏أفطال عليكم العهد‏}‏ أي في انتظار ما وعدكم اللّه ونسيان ما سلف من نعمه ‏{‏أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم‏}‏ أم ههنا بمعنى بل، هي للإضراب عن الكلام الأول، وعدول إلى الثاني، كأنه يقول‏:‏ بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا - أي بنو إسرائيل، في جواب ما أنبهم موسى وقرّعهم - ‏{‏ما أخلفنا موعدك بملكنا‏}‏ أي عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر، ‏{‏فقذفناها‏}‏ أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أن يكون عجلاً، فكان عجلاً ‏{‏له خوار‏}‏ أي صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار‏}‏‏.‏

عن ابن عباس، أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له‏:‏ ما تصنع‏؟‏ فقال‏:‏ اصنع ما يضر ولا ينفع، فقال هارون‏:‏ اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السامري‏:‏ اللهم إني أسألك أن يخور، فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم، وقال السدي‏:‏ كان يخور ويمشي، فقالوا‏:‏ أي الضُلاّل منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى فنسي‏}‏ أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه، وعن ابن عباس ‏{‏فنسي‏}‏ أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، قال اللّه تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضحيتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه‏:‏ ‏{‏أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا‏}‏ أي العجل، فلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أي في ديناهم ولا في أخراهم، قال ابن عباس‏:‏ لا واللّه ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وحاصل ما أعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد اللّه بن عمر، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب، يعني هل يصلي فيه أم لا‏؟‏ فقال ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ انظروا إلى أهل العراق‏!‏ قتلوا ابن بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏90 ‏:‏ 91‏)‏

‏{‏ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ‏.‏ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ‏}‏

يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً‏.‏ ذو العرش المجيد الفعّال لما يريد، ‏{‏فاتبعوني وأطيعوا أمري‏}‏‏:‏ أي فيما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه، ‏{‏قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى‏}‏‏:‏ أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه وخالفوا هارون في ذلك، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏92 ‏:‏ 94‏)‏

‏{‏ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ‏.‏ ألا تتبعن أفعصيت أمري ‏.‏ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ‏}‏

يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال‏:‏ ‏{‏ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن‏}‏ أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏‏:‏ أي فيما كنت قدمت إليك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏، قال ‏{‏يا ابن أم‏}‏ ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه، لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي‏}‏ الآية‏.‏ هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم، قال‏:‏ ‏{‏إني خشيت‏}‏ أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي لما تركتهم وحدهم وفرقت بينهم، ‏{‏ولم ترقب قولي‏}‏‏:‏ أي وما راعيت ما أمرتك به، حيث استخلفتك فيهم، قال ابن عباس‏:‏ وكان هارون هائباً مطيعاً له‏.‏

 الآية رقم ‏(‏95 ‏:‏98 ‏)‏

‏{‏ قال فما خطبك يا سامري ‏.‏ قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ‏.‏ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ‏.‏ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ‏}‏

يقول موسى عليه السلام للسامري‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت‏؟‏ عن ابن عباس قال‏:‏ كان السامري رجلاً من أهل باجر، وكان من قوم يعبدون البقر وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر ، وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان، وقال قتادة‏:‏ كان من قرية سامرا، ‏{‏قال بصرت بما لم يبصروا به‏}‏‏:‏ أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون ‏{‏فقبضت قبضة من أثر الرسول‏}‏ أي من أثر فرسه، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، أو أكثرهم، وقال مجاهد‏:‏ من تحت حافر فرس جبريل، قال والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد‏:‏ نبذ السامري، أي ألقى ما في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار، حفيف الريح فيه خواره‏.‏ وقال ابن أبي حاتم، عن عكرمة‏:‏ إن السامري رأى الرسول فألقى في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان، فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري‏:‏ إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي، فاجمعوه فجمعوه، فأوقدوا عليه فذاب، فرآه السامري، فألقي في روعة‏:‏ أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه، فقلت كن فكان، فقذف القبضة وقال‏:‏ كن فكان عجلاً جسداً له خوار، فقال‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏، ولهذا قال ‏{‏فنبذتها‏}‏ أي ألقيتها مع من ألقى، ‏{‏وكذلك سولت لي نفسي‏}‏‏:‏ أي حسنته وأعجبها إذ ذاك ‏{‏قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس‏}‏‏:‏ أي كما أحذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس، أي لا تماس الناس ولا يمسونك، ‏{‏وإن لك موعدا‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏لن تخلفه‏}‏ أي لا محيد لك عنه‏.‏ وقال قتادة ‏{‏أن تقول لا مساس‏}‏ قال‏:‏ عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس وقوله‏:‏ ‏{‏وإن لك موعدا لن تخلفه‏}‏ قال الحسن‏:‏ لن تغيب عنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وانظر إلى إلهك‏}‏ أي معبودك ‏{‏الذي ظلت عليه عاكفا‏}‏ أي أقمت على عبادته يعني العجل، ‏{‏لنحرقنه‏}‏ قال السدي‏:‏ سحله بالمبارد وألقاه على النار، وقال قتادة‏:‏ استحال العجل من الذهب لحماً ودماً، فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثم لننسفنه في اليم نسفا‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما‏}‏ يقول لهم موسى عليه السلام‏:‏ ليس هذا إلهكم إنما إلهكم اللّه الذي لا يستحق ذلك على العباد إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه عبد له، وقوله‏:‏ ‏{‏وسع كل شيء علما‏}‏ أي هو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، فلا يغرب عنه مثقال ذرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين‏}‏ والآيات في هذا كثيرة جداً‏.‏